فصل: مسألة حكاية عن زيد بن أسلم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة ترك قبول العطاء:

في ترك قبول العطاء قال مالك: لما قدم ربيعة بن أبي عبد الرحمن على أبي العباس أمر له بجارية فأبى أن يقبلها، فأعطاه خمسة آلاف درهم يشتري بها جارية حين أبى أن يقبلها، فأبى أن يقبلها ورأيت ابن القاسم يعجبه فعل ربيعة ويستحسنه.
قال محمد بن رشد: لما أبى أن يقبل الجارية تأول عليه أنه إنما أبى من قبولها مخافة ألا تكون خلصت لبيت المال بوجه صحيح، فأمر له بالدراهم التي لا تتعين، فأبى من قبولها أيضا.
واستحب ذلك ابن القاسم. من فعله؛ لأن العباس لم يكن من أئمة العدل الذي مجباه حلال والمجبى إذا كان يشوبه حلال وحرام فأكثر أهل العلم يكرهون الأخذ منه، ومن أهل العلم من يكره الأخذ من المجبى الحلال إذا لم يعدل في قسمه، وأما إذا عدل في قسمه فلا بأس بالأخذ منه وتركه أفضل؛ لقول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إن خيرا لأحدكم أن لا يأخذ من أحد شيئا، قالوا: ولا منك يا رسول الله، قال: ولا مني»؛ لأن من ترك حقه فيه، ولم يأخذه فقد أثر به غيره ممن يعطاه على نفسه، فله أجر ذلك، وبالله التوفيق.

.مسألة ما لا يجب فيه الحد من التعريض:

في ما لا يجب فيه الحد من التعريض وحدثني أن مروان بن الحكم جلد رجلا الحد قال لرجل: إن أمك لتحب الظلم فجلده الحد، قال ابن القاسم: قال مالك: ليس عليه العمل.
قال محمد بن رشد: إنما لم ير مالك عليه العمل؛ إذ ليس عنده بتعريض بين لاحتمال أن يريد أنها تحب الظُّلَم لئلا يبدو قبح صورتها أو سماجة هيئتها وما أشبه ذلك من المعاني التي لا يراد بها الزنى، وقد مضى هذا في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الحدود في القذف وبالله التوفيق.

.مسألة النبيذ الذي يعمل في السقاية:

في النبيذ الذي يعمل في السقاية وقال لمالك رجل من الحجبة: إنه يقال: إن النبيذ الذي يعمل في السقاية من السنة، فقال: لا والله، يريد ما هو من السنة، فقيل له: إنه قد كان على عهد أبي بكر وعمر، وقال: ما كان على عهدهما، ولو ذكرت لكلمت أمير المؤمنين حين قدم علينا فيه، يقول: ليقطعه، وكرهه كراهية شديدة.
قال محمد بن رشد: قد أنكر مالك أن يكون ذلك من السنة وأقسم على ذلك أن يكون على عهد أبي بكر وعمر، فكفى بقوله في ذلك حجة، واتباع رأيه في ذلك صواب ورشاد؛ لأن الرشد في إتباع السنة والأمر الماضي، وقد مضى هذا في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الحج، ومالك يكره للرجل شرب النبيذ وإن كان حلالا؛ مخافة الذريعة، ولئلا يعرض بنفسه سوء الظن، فكيف بعمله في السقاية، وبالله التوفيق.

.مسألة حكاية عن زيد بن أسلم:

قال مالك: واستعمل زيد بن أسلم على معدن بني سليم، وكان معدنا لا يزال يصاب فيه الناس من قبل الجن، فلما وليهم شكوا ذلك إليه، فأمرهم بالأذان وأن يرفعوا أصواتهم به، ففعلوا وارتفع ذلك عنهم، فهم عليه حتى اليوم، وأعجبني ذلك من مشورة زيد بن أسلم.
قال محمد بن رشد: إنما أمرهم زيد بن أسلم بذلك لما جاء في الحديث من أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان له ضراط حتى لا يسمع النداء، فإذا قضى النداء أقبل حتى إذا ثوب بالصلاة أدبر».. الحديث، فهو منه اهتداء حسن لما يذهب به ضرر الجن عن أهل ذلك المعدن، ولذلك أعجب مالكا ذلك من مشورته به وبالله التوفيق.

.مسألة ما يحذر من تغير الزمان:

فيما يحذر من تغير الزمان قال مالك: بلغني أنه يأتي على الناس زمان لا ينجو فيه إلا من دعا دعاء الغرق.
قال محمد بن رشد: هذا هو الزمان الذي لا يؤمر فيه بمعروف ولا ينهى فيه عن منكر الذي أنذر به النبي عليه السلام والله أعلم، روي عن أنس بن مالك، قال: «قيل يا رسول الله: متى يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قال: إذا ظهر فيكم ما ظهر في بني إسرائيل، قيل: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: إذا ظهر الادهان في خياركم، والفاحشة في شراركم، وتحول الملك في صغاركم، والفقه في أراذلكم»، وبالله التوفيق.

.مسألة فتح خيبر:

في افتتاح خيبر قال مالك: حدثني ابن شهاب، أن خيبر كان بعضها عنوة وفيها أربعون ألف عذق، وبعضها صلحا، والكتيبة أكثرها عنوة وفيها صلح، وقد كتب أمير المؤمنين أن تقسم مع صدقات النبي عليه السلام، فهم يقسمونها في الأغنياء والفقراء، فقيل له: أفترى ذلك؟ قال: لا، ولكن أرى أن يؤثر بها الفقراء.
قال محمد بن رشد: قد مضى في رسم نذر سنة وفي ذكر غزوة خيبر في رسم البز، وفي غيره من المواضع القول في افتتاح خيبر فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

.مسألة في تخيير عمر أزواج النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ بين الإقطاع أو الإنفاق:

قال مالك: خير عمر بن الخطاب نساء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يجري عليهن نفقتهن أو يقطع لكل واحدة منهن قطيعا من الأرض، فكانت عائشة وحفصة قد اختارتا أن يقطع لهما فقطع لهما عمر بن الخطاب بذلك في الغابة.
قال محمد بن رشد: إنما خير عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أزواج النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ فيما خيرهن فيه؛ لأن النفقة كانت لهن واجبة بعد موت النبي عليه السلام فيما أفاء الله عليه من بني النضير، وفدك، وسهمه بخيبر بقوله عز وجل: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [الحشر: 6]. كما كانت تجب لهن في حياته من أجل أنهن رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ محبوسات عليه ليكن أزواجه في الجنة، محرمات على غيره، يبين ذلك قوله عليه السلام: «لا يقتسم ورثتي دينارا، ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عائلي فهو صدقة»، فكان أبو بكر الصديق بعد النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ يلي ما أفاء الله على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ذلك بما كان يليه هو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حياته، فكان ينفق منه على عياله ويجعل ما بقي في الكراع والسلاح، وفي هذه الولاية تخاصم إليه علي والعباس ليليها كل واحد منهما بما كان يليها به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،، ثم سار عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بعد أبي بكر في ذلك بسيرة النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ وأبي بكر، غير أنه خير أزواج النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ فيما تخترنه من إقطاع الأرض أو إجراء الإنفاق وقد مضى هذا في رسم جامع البيوع من سماع أشهب من كتاب جامع البيوع، وبالله التوفيق.

.مسألة الاستعاذة من الجار السوء:

في الاستعاذة من الجار السوء قال مالك: وكان يقال اللهم إني أعوذ بك من جار سوء في دار إقامة.
قال محمد بن رشد: المحنة بالجار السوء عظيمة، وقد روي عن مالك رَحِمَهُ اللَّهُ أن الدار ترد من سوء الجوار فالاستعاذة بالله منه واجبة.

.مسألة غلظة مروان بن الحكم في الحد:

في غلظة مروان بن الحكم في الحد وسئل مالك عن الذي جلده مروان الحد حين قال للرجل: أمك تحب الظلم أترى فيه الحد؟ قال: لا أرى ذلك عليه، ولقد كان مروان ينتزع ثنية الرجل؛ يقبل المرأة فينزع ثنيته لذلك.
قال محمد بن رشد: أما حد القذف في التعريض بقول الرجل للرجل: إن أمك لتحب الظلم فله وجه، وإن كان مالك لا يرى ذلك ولا يأخذ به على ما تقدم من قوله قبل هذا في هذا الرسم، وأما نزع ثنية الرجل إذا قبل المرأة فلا وجه له بوجه، وقد أنكره مالك عليه، وبالله التوفيق.

.مسألة دعاء الرجل بالموت:

في دعاء الرجل بالموت قال مالك: بلغني أن عمر بن عبد العزيز دعا رجلا فقال:
ادع لي بالموت، فقال الرجل: وأنت فادع لي به، فقال عمر للرجل: لِم لَم تدع لي بالموت وأنت مخلى؟ فقال: إني أحب ذلك، قال: فدعوا فمات عمر ولم يمت الرجل، وبقي فكان الرجل يقول بعد ذلك: إن عمر بن عبد العزيز كان صادقا يريد الموت، وإني لم أكن صادقا.
قال سحنون قال ابن القاسم: قال لي مالك: والرجل رجل من أهل الشام كان له فضل، قال مالك: إني لأقول إن عمر بن الخطاب كان يحب ما يحب الناس من البقاء في الدنيا والمال والنساء، ولكنه خاف العجز فلذلك دعا الله اللهم اقبضني إليك غير مفرط ولا عاجز.
قال محمد بن رشد: ما قاله مالك في قول عمر بن الخطاب اللهم اقبضني إليك غير مفرط ولا عاجز من أنه إنما دعا بذلك مخافة الغير في الدين مثلُه يقال في دعاء عمر بن عبد العزيز على نفسه بالموت: إنه إنما دعا بذلك لما كان امتحن به من أمر الخلافة فخشي على نفسه التقصير فيما يتعين عليه في أمرها فيقع في الحرج، فإنما فر من الإثم بطول الحياة، ولا يجوز لأحد أن يدعو لنفسه بالموت من أجل ضر نزل به، فقد جاء النهي في ذلك عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ، روي عنه أنه قال: «لا يتمنى أحدكم الموت لضر نزل به، وليقل اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي» وبالله تعالى التوفيق.

.مسألة الأسير في قول الله عز وجل وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا:

في الأسير في قول الله عز وجل: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8].
هل هو مسلم أو مشرك؟ وسئل مالك عن قول الله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8] الأسير هل مسلم أو مشرك؟ قال: بل مشرك، وقد كان ببدر أسارى فأنزلت فيهم هذه الآية: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} [الأنفال: 67] وكانوا مشركين وقد افتدوا ورجعوا، ولو كانوا مسلمين قاموا ولم يذهبوا.
قال محمد بن رشد: قد اختلف في المراد بالأسير في قوله: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8] فقيل: الأسير هو الحربي من أهل دار الحرب يؤخذ قهرا بالغلبة، والمسلم يحبس في حق، فأثنى الله تبارك وتعالى على الأبرار الذين يطعمون الطعام على حبهم إياه هؤلاء الأصناف، وقيل: المراد الأسير الحربي الكافر يؤسر، وقيل: المراد به المسجون من أهل القبلة، والأظهر أن يحمل على كل أسير كان من أهل الإسلام، أو من أهل الكفر، وبالله التوفيق.

.مسألة المقصورة في الجامع:

في المقصورة في الجامع قال مالك: أول من جعل مقصورة مروان بن الحكم حين طعنه اليماني، قال فجعل مقصورة من طين وجعل فيها تشبيكا.
قال محمد بن رشد: وجه قوله الإعلام بأن المقصورة محدثة لم تكن على عهد النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ ولا على عهد الخلفاء بعده، وإنما أحدثها الأمراء للخوف على أنفسهم، وقد قيل: إن معاوية بن أبي سفيان هو أول من اتخذ المقاصير في الجوامع، وأول من أقام على نفسه حرسا، وأول من قيدت بين يديه الجنائب، وأول من اتخذ الخصيان في الإسلام، وأول من بلغ درجات المنبر خمس عشرة مرقاة، فاتخاذها في الجوامع مكروه، فإن كانت ممنوعة تفتح أحيانا وتعلق أحيانا فالصف الأول هو الخارج عنها اللاحق بها، وإن كانت مباحة غير ممنوعة فالصف الأول هو اللاحق بجدار القبلة داخلها، روى ذلك عن مالك.
وقوله: وجعل فيها تشبيكا يريد تخريما يرى منه ركوع الناس وسجودهم للاقتداء بهم، وقد مضى هذا في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الصلاة، وبالله التوفيق.

.مسألة الطلوع على منبر النبي عليه السلام بخفين:

في الطلوع على منبر النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ بخفين قال مالك: استشارني بعض ولاة المدينة أن يطلع منبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخفين ونهيته عن ذلك، ولم أر أن يطلعه بخفين، فقيل له: فالكعبة؟ فقال: إن بعض هؤلاء الحجبيين ممن قدم علينا يذكر أن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ نهى أن يطلع أحد الكعبة بنعلين، فقيل له: فالرجل يجعلهما في حجرته؟ فقال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة من كراهيته أن يطلع أحد منبر النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ بخفين أو نعلين للإمام أو غير الإمام، وأن يدخل أحد البيت بنعلين أو خفين؛ إكراما لهما وترفيعا وتعظيما، إذ من الحق أن ينزها عن أن يوطأ بالخفاف والنعال المتخذة لصيانة القدمين عن المشي بهما في الطرق والمحاج وإن كانت طاهرة، ولم ير ابن القاسم بأسا في المدونة أن يدخل بهما في الحجر، وكره ذلك أشهب في المجموعة؛ لأن الحجر من البيت، قال: وكراهيتي لذلك في البيت أشد وقد مضى هذا في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الحج، وبالله التوفيق.

.مسألة عدة من قتل وأسر من المشركين يوم بدر:

في عدة من قتل وأسر من المشركين يوم بدر قال مالك: بلغني أن قتلى بدر كانوا شبيها بمن أسر منهم، كان من قتل منهم بضعة وأربعين، ومن أسر كذلك بضعة وأربعين، وكان فداؤهم مختلفا لم يكن شيئا واحدا كان بعضهم في ذلك أكثر من بعض.
قال محمد بن رشد: قد قيل: إن القتلى كانوا سبعين، والأسرى سبعين، وقد قال ابن عبد البر في كتاب الدرر له: لا يختلفون أن القتلى يومئذ سبعون والأسرى سبعون في الجملة، وقد يختلفون في تفضيل ذلك، وقد سمى أهل السير الأسرى منهم والقتلى ومن قتل كل واحد منهم وإن كانوا يختلفون في بعضهم، وبالله التوفيق.

.مسألة ما روي عن حذيفة في قتل عثمان رضي الله عنه:

فيما روي عن حذيفة في قتل عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال وحدثنا مالك: وقال معاوية من يحفظ حديث حذيفة؟
فقال عبد الرحمن بن غنم، فقال: كيف كان يقول؟ قال: اللهم إني لم أشارك غادرا في غدرته، وإني أعوذ بك من صباح السوء، قال مالك: أراه يعني الموت، فقال معاوية: كذب قد أعان على قتل عثمان، فقال ابن الأسود: دعوه فهو أعلم بما يتكلم به، قال له معاوية: وأنت قد أشركت في دمه، قال: أما أنا فنهيته عما قيل فيه، فأنت أسلمته حين احتاج إليك، قال: فثنى معاوية برجله فدخل.
قال محمد بن رشد: حذيفة بن اليمان من فضلاء الصحابة يعرف فيهم بصاحب سر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان عمر ابن الخطاب يسأله عن المنافقين وينظر إليه عند موت من مات منهم فإن لم يشهد جنازته حذيفة لم يشهدها عمر، وخيره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين الهجرة والنصرة فاختار النصرة، فليس ممن يتهم في أنه أعان على قتل عثمان، ولا يتهم في ذلك أحد أيضا من المهاجرين ولا الأنصار، روي عن الحسن أنه قيل له: أكان فيمن قتل عثمان أحد من المهاجرين والأنصار؟ قال: لا كانوا أعلاجا من أهل مصر، ولولا أنه منعهم من الدفاع عنه والقتال دونه لفعلوا، روي عن محمد ابن سيرين أنه قال: انطلق الحسن والحسين، وابن عمر، وابن الزبير، ومروان بن الحكم كلهم شاك في السلاح حتى دخلوا الدار، فقال عثمان: أعزم عليكم لما رجعتم فوضعتم أسلحتكم ولزمتم بيوتكم، فخرج ابن عمر والحسن والحسين، وقاك ابن الزبير ومروان: ونحن نعزم على أنفسنا ألا نبرح ليقضي الله أمرا كان مفعولا، وروي عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أنه قال: لو أن أحدا ارفض لما فعل بابن عفان كان محقوقا وهو كما قال رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فإنه كان حدثا عظيما لم يجر في الإسلام مثله.
وإنما منع رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ من الدفاع عنه والقتال دونه لعهد كان عنده في ذلك عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ، روي «عن عائشة قالت: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ادع لي بعض أصحابي، فقلت: أبو بكر؟ فقال: لا، فقلت: عمر؟ قال: لا، فقلت ابن عمك علي؟ قال: لا، فقلت له عثمان بن عفان؟ قال: نعم، فلما جاء قال لي بيده، فتنحيت فجعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يساره ولون عثمان يتغير، فلما كان يوم الدار وحصر، قيل له: ألا تقاتل؟ قال: لا، إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عهد إلي عهدا وأنا صابر نفسي عليه» وبالله التوفيق.

.مسألة شرب الفلونية والترياق للمحرم:

في شرب الفلونية والترياق للمحرم وسئل مالك عن شرب الفلونية والترياق للمحرم وفيها الزعفران، قال: لا بأس به، والذي فيه من الزعفران ليس له قدر، لا يرى، وما أرى به بأسا، قال مالك حين ذكر شرب الترياق للمحرم: أشد من هذا عندي ما يصيب الناس في إحرامهم من طيب البيت وخلوقه، كأنه يرى أن لهم في ذلك سعة وأنه أمر لا يستطاع، يقول: فكيف يصنعون؟
قال محمد بن رشد: إنما جاز للمحرم شرب الفلونية والترياق؛ لأن الذي فيهما من الزعفران يسير لا قدر له ولا يظهر فيهما فلم ير له حكما لما كان مستهلكا فيهما، كما أن لبن المرأة عنده إذا خلط بالطعام وعصد به حتى صار هو الغالب عليه لم يقع به حرمة، فليس ذلك بخلاف لما في المدونة وغيرها من أن المحرم لا يأكل الطعام الذي فيه الزعفران إلا أن يكون قد مسته النار، قال ابن حبيب فتعلك بالطعام حتى صار لا يصبغ اليد ولا الشفة لهذه العلة ولمعنى آخر أيضا وهو أن الفلولنية والترياق إنما يشربان لضرورة التداوي، فليس بمنزلة الطعام الذي يؤكل من غير ضرورة، يدل على هذا التعليل تقييد مالك ذلك بما يصيب الناس في إحرامهم من طيب الكعبة وخلوقها؛ لأنهم مضطرون إلى ذلك فأشبه ضرورة التداوي، وبالله التوفيق.

.مسألة تحديد عمر الحرم وموضع المقام من البيت:

في تحديد عمر الحرم وموضع المقام من البيت قال مالك: بلغني أن عمر بن الخطاب هو الذي حد علم الحرم وأنه حين أراد أن يحده أرسل إلى ناس كانوا يدعون في الجاهلية أهل معرفة بذلك الموضع، فسألهم عن ذلك فحددوها ووضعوا أنصابها.
قال مالك: كان المقام ملتصقا بالبيت، وكان الطواف من ورائه، وإنما ألصق لمكان السيل خيف عليه منه فقدم، فلما ولي عمر ابن الخطاب أخرجه إلى هذا الموضع، وهو موضعه الذي كان فيه في الجاهلية، وأنه وجد خيوطا كان قد قيس بها موضعه حين هدم فقاسه بها حتى رده إلى موضعه.
قال محمد بن رشد: قد تقدم هذا في رسم اغتسل ومثله في المدونة بمعناه، وفيه الفضيلة لعمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فيما تهمم به من ذلك وصنعه، وبالله التوفيق.

.مسألة ما يختار للراعف من البناء أو القطع:

فيما يختار للراعف من البناء أو القطع قال: وقد كان بعض أهل العلم يقول: لأن أتكلم وأبتدِي أحب إلي من ألا أتكلم وأبني، قال: فكيف يعمل؟ لا يتكلم في وضوئه وينصت في ذلك كله!!! ورأيه أن يتكلم ويبتدي.
قال محمد بن رشد: ليس البناء في الرعاف بواجب، وإنما هو من قبل الجائز، وقد اختلف في المختار المستحب من ذلك، فاختار ابن القاسم القطع، وهو قول بعض أهل العلم في هذه الرواية: لأن أتكلم وأبتدى أحب إلي من ألا أتكلم وأبني، وهو القياس، فإن ابتدأ ولم يتكلم أعاد الصلاة.
واختار مالك رَحِمَهُ اللَّهُ البناء على الاتباع للسلف بأن خالف ذلك القياس والنظر، وهذا على أصله في أن العمل أقوى من القياس؛ لأن العمل المتصل لا يكون أصله إلا عن توقيف، وهو قوله في هذه الرواية: إنه لا يتكلم في وضوئه وينصت في ذلك كله.
وقوله في آخر الكلام: ورأيه أن يتكلم ويبتدئ هو من قول مالك حكاية عما اختاره بعض أهل العلم على ما حكي عنه، وقد ذكر ابن حبيب ما دل على وجوب البناء، وهو قوله: إن الإمام إذا رعف فاستخلف بالكلام جاهلا أو متعمدا بطلت صلاته وصلاتهم، فجعل قطعه صلاته بالكلام بعد الرعاف يبطل صلاتهم كما لو تكلم جاهلا أو متعمدا بغير رعاف، والصواب ما في المدونة أن صلاتهم لا تبطل؛ لأنه إذا رعف فالقطع له جائز في قول، ومستحب في قول، فكيف تبطل صلاة القوم بفعله ما يجوز له أو ما يستحب له؟ وبالله التوفيق.

.مسألة تفسير قول الله عز وجل وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ:

في تفسير قول الله عز وجل: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} [الأنفال: 17]:
وقول أم سليم للنبي عَلَيْهِ السَّلَامُ يوم حنين وسئل عن قول الله تعالى وتبارك: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17]، قال في حصب رسول الله المشركين يوم حنين.
قال مالك: «وقالت له أم سليم ذلك اليوم من يا رسول الله يضرب رقاب هؤلاء المنهزمين؟ وهي قابضة بعنان بغلته، قال: أويأتي الله عز وجل يا أم سليم بخير من ذلك» قال مالك وكانت عائشة مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الخندق.
قال محمد بن رشد: قول مالك رَحِمَهُ اللَّهُ في قول الله عز وجل: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] إن ذلك في حصب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المشركين يوم حنين صحيح لا اختلاف فيه من أهل العلم بالتفسير، ولم ينف الله عنه عز وجل الرمي جملة وإن كان الله عز وجل هو الفاعل له الخالق لكل شيء، قال الله عز وجل: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96]؛ لأن للنبي عَلَيْهِ السَّلَامُ فيه الكسب الذي يثاب عليه ويسمى به راميا حقيقة لا مجازا، وإنما الذي نفي عنه جملة الانتفاع الذي كان عن الرمي فانهزم به المشركون، وذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما واجهه العدو يومئذ صاح بهم صيحة وأخذ حصى أو ترابا ورمى بها في وجوههم، وقال: شاهت الوجوه، فلم يبق منهم أحد إلا دخلت الحصاة والتراب في عينيه، فلم يملكوا أنفسهم ورجعوا على أعقابهم، ونادى مناديه يا آل المهاجرين يا آل الأنصار، فما تكامل المسلمون بالرجوع إليه إلا وأسرى المشركين بين يديه.
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأم سليم: «أويأتي الله بخير من ذلك يا أم سليم» إذ قالت له ما قالت يريد ما فعله رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الدعاء إلى الله عز وجل بإنجاز ما وعده به من النصر، وكذلك فعل، رفع يديه إلى الله عز وجل يدعو يقول «اللهم أسألك ما وعدتني» ونادى أصحابه وقبض قبضة من الحصى فحصب بها وجوه المشركين ونواحيهم كلها، وقال: «شاهت الوجوه» وأقبل إليه أصحابه سراعا يبتدرون، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الآن حمي الوطيس» فهزم الله أعداءه من كل ناحية، حصبهم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتبعهم المسلمون يقتلونهم، وغنمهم الله نسائهم وذراريهم وشاءهم وإبلهم، وفي ذلك قال الله عز وجل: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] الآية، وقال عز وجل: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا} [التوبة: 25] الآية، إلى قوله: {وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [التوبة: 26].
وفيما ذكره شهود النساء الغزوات ليخدمن الغزاة ويسقين الماء ويداوين الجرحى، ولا لسهم لهن من الغنيمة ولا للصبيان ولا للعبيد، واختلف أهل العلم هل يرضخ لهم من الغنيمة على غير وجه قسم، فلم ير ذلك مالك رَحِمَهُ اللَّهُ، وذهب ابن حبيب إلى أن ذلك مما يستحب للإمام أن يفعله، وهذا على الاختلاف هل للإمام أن ينفل من جملة الغنيمة وقد مضى الكلام على هذا في ذكر غزوة حنين من رسم البز، وبالله تعالى التوفيق.

.مسألة أول من استقضي:

في أول من استقضي قال مالك: ما استقضى أبو بكر ولا عمر ولا عثمان قاضيا وما كان ينظر في أمور المسلمين غيرهم حتى كان بعد.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما تقدم من قوله قبل هذا في رسم سئل عن تأخير صلاة العشاء في الحرس، من أن أول من استقضى معاوية يريد والله أعلم أنه أول من استقضى في موضعه الذي كان فيه؛ لاشتغاله بما سوى ذلك من أمور المسلمين كبعث البعوث وسد الثغور وفرض العطاء وقسم الفيء وما أشبه ذلك، فقد ولى عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ على ما ذكر قضاء البصرة أبا مريم الحنفي، ثم عزله وولى كعب بن سور اللقطي، فلم يزل قاضيا حتى قتل عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وولى شريحا قضاء الكوفة، يدل على صحة تأويلنا هذا في هذه الرواية، قوله فيها: وما كان ينظر في أمور المسلمين غيرهم، إذ لا يصح أن ينظروا هم بأنفسهم في أمور المسلمين إلا في مواضعهم التي هم فيها إلا فيما بعد من البلاد، والذي مضى من قوله في رسم تأخير العشاء المذكور، ويأتي في رسم المحرم ما يرد هذا التأويل ويدفعه، وبالله التوفيق.